كان
سقراط فلتة عقلية. ومع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراطية بإعدامه عام 399 ق.
ب. والسؤال ما هو هذا الجرم الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ في
أثينا؟ من الضروري الإحاطة بظروف إعدام هذا الرجل، فقد عاشت أثينا القديمة
فترة من الزمن تنعم بنوع من الحكم الديمقراطي السيادة فيه لعامة أبنائها،
ولكن ما كادت المدينة العريقة تنهزم في حربها مع إسبارطة حتى انتكست فيها
الديمقراطية. ولكن الخلاص كان في الطريق فقد عاد "تراسبيولوس" بعدد قليل
من أتباعه فانضم إليه أنصار الديمقراطية، ولكن ما إن مضت خمسة أعوام وحل
عام 399 قبل الميلاد حتى اقترف هؤلاء ما رأت فيه الأجيال اللاحقة وصمة عار
في جبين الديمقراطية الأثينية. كانت ثروة البلاد في هبوط، فراح كثيرون
يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائداً بأن الفضائل
اهتزت، وكان المسؤولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي الأفكار
الجديدة يتقدمهم معلم يعمل نحاتاً يقال له سقراط.
والحقيقة أن
سقراط لم يترك كتباً تحمل آراءه وإنما نقلها إلينا تلميذه أفلاطون. ولم
يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا مغرياً الناس بالجدل
والمناقشة، دافعاً إياهم إلى البحث عن المعرفة والفضيلة، ولكي ينهض بتلك
الرسالة كان لابد من التشكيك في كثير من الأفكار، وهكذا أثار سخط عدد من
الناس عليه فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب.
وقدم
الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت محكمة غريبة تتكون من 565 قاضياً كان
اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء. وعندما فرغ المدعي من تلاوة اتهامه
نهض سقراط وقال: أيها الأثينيون لقد عشت شهماً شجاعاً ولم أترك مكاني خوف
الموت، وما أراني اليوم وقد تقدمت بي السن مستطيعاً أن أهبط عن ذلك المقام
في الشجاعة فأتخلى عن رسالتي التي ألهمتني إياها السماء، والتي تهيب بي أن
أُبَصِّر الناس بأنفسهم، فإذا كان ذلك التبصير هو ما تسمونه إفساداً
للشباب الأثيني، ألا إذن فاعلموا أيها القضاة أنكم إن أخليتم سبيلي في هذه
الساعة فإني عائد من فوري إلى ما كنت عليه من تعليم الحكمة.
وهنا
علت همهمة القضاة وأظهروا غضبهم واستنكارهم. ومع ذلك فقد مضى سقراط
بكلماته فقال: لا تحسبوا دفاعي هذا عن نفسي خوفاً عليها بل خوفاً عليكم
أنتم يا أهل أثينا الأحباء فإنني أخشى أن تفقدوا بفقدي رجلاً لا يعوض.
فإنكم وحق الآلهة لن تجدوا من بعدي أحداً يبصركم بعوراتكم لتركضوا كالجياد
إلى غايات الخير والفضيلة والإحسان.
وازداد ضجيج القضاة وأحس
رئيسهم بالخطر الذي تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة الحادة فقال
له: أليس من الأفضل لك أن تكسب عطف المحكمة بدلاً من أن تتحداها بهذا
الزهو والشموخ؟
أجاب سقراط: أتريدني حقاً أن أترضاكم يا أهل
أثينا بالمديح والثناء الكاذب وأن أرضي غروركم بالتوسل والبكاء. و استطرد:
والآن أيها القضاة احكموا بما شئتم واعلموا أن نفوسكم هي التي في كفة
الميزان لا نفسي، فاحرصوا على العدل والحق.
وعندما سأل كبير القضاة
سقراط عن أي العقوبات يظن أنه يستحقها؟ أجاب مبتسماً: إن أليق حكم تصدرونه
علي أن تحكموا لي بأن أطعم وأكسى على نفقة الدولة بقية عمري اعترافاً منكم
بما أسديت لأثينا وأهلها من الخير.
وصدر الحكم على سقراط
بالإعدام. في تلك الأثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب كريتون وهمس في
أذنه: لقد أعددنا كل شيء للهرب فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية. فتطلع إليه
سقراط طويلا ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت. إني لا أستطيع أن
أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله. بل إنني يا كريتون أرى هذه
المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا
كريتون ليست الحياة نفسها شيئاً، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل
فذلك هو كل شيء.
وفي ذلك اليوم حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعه سقراط بكل شجاعة فلم يخف الموت لأنه كان على يقين من أن الخلود في انتظاره.
سقراط
(469 ـ 399 ق.م). فيلسوف ومعلم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته
الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط
حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يعرف لسقراط أية مؤلفات، وقد
عُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينفون
والفيلسوف أفلاطون، بالإضافة إلى ما كتبه عنه أريسطو فانيس وأرسطو. وُلد
سقراط وعاش في أثينا. وكان ملبسه بسيطًا. وعُرف عنه تواضعه في المأكل
والمشرب. وتزوج من زانْثِب التي عُرف عنها حسب الروايات أنها كانت حادة
الطبع ويصعب العيش معها. وقد أنجبت له طفلين على الأقل.
* مولده :
ولد
سقراط SOCRATES في اثينا حوالي العام(469ق.م). وكان أبوه نحاتا وأمه
قابلة. ولا يعرف عن حياته الأولى سوى أنه لما بلغ منتصف العمر أصبح شخصا
مرموقا في المدينة، اذ جعلت منه أفكاره الجديدة وشخصيته الفريدة رجلا
مشهورا. وكان سقراط قبيح المنظر جاحظ العينين، أفطس الانف، ولكن كان يملك
قدرات خارقة للعادة من حيث ضبط النفس والصبر.
*إن الفلسفة قبل
سقراط كانت تختص أساسا بمسائل تتعلق بوجود العالم وماهيته. ولقد اقتنع
سقراط بانه من المستحيل الاجابة عن هذه التساؤلات، وان دراسة هذه المسائل
لن تلقي على أية حال ضوء على السبيل الصحيح للحياة، هذا السبيل اللذي كان
بالنسبة له هو الموضوع الوحيد ذو الأهمية الفعلية. وهكذا فان هدفه كان جعل
الناس يفكرون بوضوح في الطبيعة المجردة للأخلاقيات كالعدل و الشجاعة مثلا،
وذلك بدلا من مجرد المضي في حياتهم خلف العقائد التي جرى العرف عليها. وهو
لم يطالب بتدريس أية تعاليم، اكتفاء بالتساؤلات التي تعين الناس على
انتزاع الحقيقة من داخل أنفسهم بالتفكير.
لقد آمن سقراط بأن بأن الآثام كلها وليدة الجهل، وان الناس لو عرفوا فقط ما هو الحق، اذن لما وجدوا صعوبة في اتباعه
كان
سقراط يعلم الناس في الشوارع والأسواق والملاعب. وكان أسلوب تدريسه يعتمد
على توجيه أسئلة إلى مستمعيه، ثم يُبين لهم مدى عدم كفاية أجوبتهم. قُدّمَ
سقراط للمحاكمة وُوجهت إليه تهمة إفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد
الدينية. وكان سقراط يُلمحُ إلى أن الحكام يجب أن يكونوا من أولئك الرجال
الذين يعرفون كيف يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم. وقد
قضت هيئة المحلَّفين بثبوت التهمة على سقراط وأصدرت حكمها عليه بإلإعدام.
ونفذ الحكم بكلِّ هدوء متناولاً كوبًا من سم الشوكران.
وكان سقراط
يؤمن بأن الأسلوب السليم لاكتشاف الخصائص العامة هو الطريقة الاستقرائية
المسماة بالجدلية؛ أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة. وقد
أخذت هذه العملية شكل الحوار الجدلي الذي عرف فيما بعد باسم الطريقة
السقراطية.